يُعرف "لغز السكرتيرة" (Secretary problem)، والذي يُطلق عليه أيضًا مشكلة الزواج أو مشكلة الاختيار الأمثل، بأنه أحد الألغاز الرياضية الشهيرة التي تقدم نموذجًا مذهلا لكيفية اتخاذ قرار مثالي في ظل غياب المعلومات الكاملة منذ البداية.
هذا اللغز يُعد من أبرز الأمثلة في نظرية الاحتمالات واتخاذ القرار تحت حالة من عدم اليقين.
سيناريو المشكلة
تخيل أنك بصدد تعيين سكرتيرة (أو اختيار شريك حياة، أو شقة للسكن، أو أي خيار مشابه). لديك عدد معروف مسبقًا من المرشحين — لنقل 100 مرشح — وتقوم بإجراء مقابلات معهم واحدًا تلو الآخر، بترتيب عشوائي. بعد كل مقابلة، عليك اتخاذ قرار فوري: إما القبول أو الرفض. إذا رفضت أحدهم، لا يمكنك التراجع لاحقًا.
الهدف ؟ اختيار أفضل مرشح من بين الـ100.
لكن كيف يمكنك زيادة فرصك في اتخاذ القرار الصحيح رغم العشوائية ؟
هنا تظهر المفاجأة : هناك طريقة مدروسة رياضيًا تحقق لك أعلى فرصة ممكنة.
الاستراتيجية المثلى: قاعدة 37٪
تعتمد الطريقة الأفضل على قاعدة بسيطة تُعرف بـقاعدة 37٪، والتي تنص على التالي :
- ارفض تلقائيًا أول 37 مرشحًا (أي حوالي 37٪ من إجمالي عدد المرشحين) دون اختيار أيٍّ منهم.
- خلال هذه المرحلة، راقب وسجّل من هو أفضل مرشح من بينهم.
- بعد الانتهاء من تقييم هؤلاء الـ37، استمر في مقابلة الباقين.
- بمجرد أن تقابل مرشحًا يتفوق على جميع من سبقوه، قم باختياره فورًا.
باتباع هذه القاعدة، تصبح فرصتك في اختيار أفضل مرشح على الإطلاق حوالي 37٪ — وهي نسبة عالية، بشكل مذهل، مقارنة بطبيعة القرار العشوائي.
وقد تم إثبات ذلك من خلال حسابات رياضية دقيقة، حيث تبيّن أن أقصى احتمال لاختيار الأفضل يقترب من 1/e، أي تقريبًا 0.368، وهو ما أعطى القاعدة اسمها.
لماذا هذه الطريقة فعّالة ؟
تكمن قوة هذه الاستراتيجية في خلق توازن بين مرحلتين أساسيتين :
- المراقبة (observation): حيث تقوم في البداية بجمع معلومات تساعدك على تحديد مستوى الجودة.
- التحرك (action) : لاحقًا، عندما ترى مرشحًا يتجاوز هذا المستوى المرجعي، تتخذ القرار فورًا.
رفض المجموعة الأولى يساعدك على تكوين فهم واقعي لما يُعتبر "مرشحًا جيدًا"، مما يعزز من جودة قرارك لاحقًا. وكلما تقدّمت في المقابلات، تصبح فرصة مقابلة مرشح أفضل أقل فأقل — مما يجعل التحرك السريع أمرًا ضروريًا.
تطبيقات أوسع في الحياة
لا يقتصر "لغز السكرتيرة" على مجال التوظيف فقط، بل يمتد ليشمل مواقف حياتية كثيرة، مثل:
- اختيار شقة للعيش
- اتخاذ قرار بشأن شريك عاطفي
- قبول عرض شراء أو صفقة معينة
في كل حالة تتطلب قرارًا لا رجعة فيه، وسط خيارات متتابعة، تقدم هذه القاعدة نهجًا علميًا وعقلانيًا لاتخاذ القرار — حتى وإن لم يكن مضمونًا 100٪، إلا أنه الأفضل إحصائيًا.
الخلاصة : لغز السكرتيرة فن اتخاذ القرار
هذا النموذج البسيط يخفي خلفه درسًا عميقًا في فنّ الاختيار الذكي : راقب أولًا، ثم تحرّك بسرعة عند ظهور الفرصة المناسبة.
إنها استراتيجية أنيقة وقوية، تمزج بين الحسابات الدقيقة وحدس اتخاذ القرار — وتذكّرنا أن في قلب الفوضى، قد توجد معادلة للنجاح.