وثائق قديمة تكشف أسرار بناء أهرامات الجيزة

 

تكشف برديات البحر الأحمر أسرار بناء أهرامات الجيزة، موضحة دور العمال والموانئ ونقل الحجارة في عهد خوفو بدقة تاريخية نادرة.

تُعد أهرامات الجيزة من أعظم الإنجازات المعمارية في تاريخ البشرية، وقد ظلّت طريقة بنائها لغزًا حيّر العلماء والمؤرخين لقرون طويلة. إلا أن اكتشافًا أثريًا فريدًا غيّر فهمنا لهذا الإنجاز الضخم، ويتمثل في برديات البحر الأحمر التي كشفت تفاصيل غير مسبوقة عن كيفية تشييد هرم خوفو.


وادي الجرف: موقع هادئ يخفي تاريخًا استثنائيًا

يقع وادي الجرف على ساحل البحر الأحمر في مصر، ويبدو اليوم مكانًا هادئًا تحيط به الرمال الصحراوية والمياه الزرقاء الساكنة، ويمكن من بعيد رؤية شبه جزيرة سيناء. غير أن هذا الهدوء يخفي ماضيًا صاخبًا؛ إذ كان الموقع قبل أكثر من 4000 عام مركزًا تجاريًا وميناءً نشطًا.


في عام 2013، اكتسب وادي الجرف أهمية تاريخية كبرى بعد اكتشاف 30 بردية بداخله، وهي أقدم وثائق مكتوبة معروفة حتى الآن، وقد عُثر عليها داخل كهوف صناعية منحوتة في الحجر الجيري.


برديات البحر الأحمر ويوميات "مرِر"

لا تقتصر أهمية هذه البرديات على قِدمها فقط، بل تكمن قيمتها الحقيقية في محتواها. فهي تسرد تفاصيل حياة الميناء، كما تتضمن يوميات رجل يُدعى مرِر، كان مشرفًا على فريق شارك مباشرة في بناء هرم خوفو.


وكان موقع وادي الجرف قد اكتُشف لأول مرة عام 1823 على يد الرحالة البريطاني جون غاردنر ويلكنسون، الذي ظن أنه مقبرة من العصر اليوناني الروماني. وفي خمسينيات القرن العشرين، أعاد طيّاران فرنسيان اكتشافه، لكن الأوضاع السياسية حينها أخّرت أعمال التنقيب.


حفريات حديثة تؤكد دور الميناء

في عام 2008، استؤنفت الحفريات بقيادة عالم المصريات الفرنسي بيير تالِت، الذي أثبت أن وادي الجرف كان ميناءً مهمًا خلال عهد الملك خوفو، قبل نحو 4500 عام. وأظهرت الاكتشافات أن الموقع كان مركزًا اقتصاديًا رئيسيًا لنقل المواد المستخدمة في بناء الأهرامات، التي تقع على بُعد نحو 240 كيلومترًا.


ومن بين أهم الاكتشافات يوميات مرِر، التي قدمت دليلًا مباشرًا على تنظيم العمل في مشروع بناء الهرم.


ميناء الأهرامات

يتكوّن موقع وادي الجرف من عدة مناطق تمتد بين نهر النيل والبحر الأحمر. قرب النيل، توجد حوالي 30 غرفة كبيرة من الحجر الجيري كانت تُستخدم لتخزين السفن، وهناك عُثر على البرديات.


أما باتجاه البحر، فظهرت معسكرات ومبنى حجري ضخم مقسّم إلى 13 جزءًا، يُعتقد أنه كان مقرًا سكنيًا أو إداريًا. وعلى الساحل، وُجد الميناء نفسه بما يضمه من مساكن ومخازن.


وتشير الأدلة الأثرية إلى أن الميناء أُنشئ في عهد الملك سنفرو، واستُخدم حتى نهاية حكم ابنه خوفو، وكان مخصصًا أساسًا لبناء مقبرة خوفو التي عُرفت آنذاك باسم "أفق خوفو" (Akhet-Khufu).


النحاس: عنصر أساسي في بناء الهرم

عُثر في الموقع على منشآت ضخمة، منها رصيف حجري بطول 180 مترًا، إضافة إلى نحو 130 مرساة حجرية، ما يدل على نشاط بحري كثيف. وكانت السفن تنطلق من الميناء – الذي أطلق عليه المصريون اسم "الشجيرة" – لتعبر البحر الأحمر نحو سيناء، حيث كان يُستخرج النحاس.


وكان النحاس آنذاك أصلب معدن متاح، ويُستخدم في قطع الأحجار اللازمة لبناء الهرم. وبعد العودة، كانت السفن تُخزَّن داخل غرف الحجر الجيري.


كنوز محفوظة في الكهوف

بعد وفاة خوفو وإغلاق الميناء، أُرسلت بعثة من الجيزة لإغلاق غرف التخزين. وخلال ردم الكهوف، علقت برديات مرِر بين كتل الحجر، وبقيت محفوظة في هواء الصحراء الجاف أكثر من 4500 عام حتى اكتشافها عام 2013.


تفاصيل يومية عن نقل الحجارة

دوّن مرِر بدقة أعمال فريقه المكوّن من 200 عامل. ومن أبرز مهامهم استخراج أحجار الكسوة من محاجر طُرة ونقلها عبر النيل إلى الجيزة. وتصف اليوميات رحلة استغرقت ثلاثة أيام من المحجر إلى موقع الهرم، مع التوقف في منطقة إدارية لتسجيل الشحنات.


كما تكشف البرديات اسم أحد كبار المشرفين على المشروع، وهو عنخ خعف، الأخ غير الشقيق لخوفو، الذي كان يحمل لقب "رئيس جميع أعمال الملك".


عمّال مهرة لا عبيد

تتضمن يوميات مرِر أيضًا تفاصيل دقيقة عن أجور العمال. وبما أنه لم تكن هناك عملة نقدية، كان الأجر يُدفع على شكل حصص غذائية من الحبوب. وكان غذاء العمال يتكوّن من الخبز، واللحوم، والتمر، والعسل، والبقوليات، إضافة إلى الجعة.


وتدحض هذه الوثائق الفكرة الشائعة بأن بناة الأهرامات كانوا عبيدًا، إذ تُظهر أنهم عمّال مهرة يتقاضون أجورًا مقابل عملهم.


شهادة إنسانية فريدة

تُعد برديات البحر الأحمر شهادة إنسانية نادرة لشخص شارك فعليًا في بناء أعظم صرح حجري في التاريخ. ومن خلالها، حصل علماء المصريات على صورة دقيقة وواقعية لمراحل بناء هرم خوفو، ليس كأسطورة غامضة، بل كمشروع منظم اعتمد على التخطيط والعمل اليومي المتقن.